النحل والرقص
هل للعالم لغة واحدة؟ وهل لكل الكائنات الحية لغة تضم حروفا وكلمات للتواصل ؟ في هذه المدونه ننظر إلى من منظور آخر ونتعرف على لغة النحل و أسرارها ..
إن اللغة علم واسع يتسم بالتنوع والتغير وفقا لتنوع الكائنات الحية وقد عرف العلماء المتخصصون في دراسة الكائنات الحية أن هناك أنواع منها تستطيع أفرادها أن تتفاهم فيما بينها بوسائل مختلفة بغية الوصول إلى غرض معين وأيًا كانت وسيلة التفاهم فقد اعتبرها العلماء المتخصصون لغة طالما أنها تستخدم في نقل المعلومات بين أفراد النوع الواحد من فرد إلى فرد آخر ومع التجاوز عن المدلول الحقيقى للفظ ( لغة ) الذى استنبطه الإنسان وإذا كان هذا التفاهم مرغوب فيه عند الكائنات التى تعيش فرادى فهو أكثر طلبا وعلى جانب كبير من الأهمية عند الكائنات التى تعيش معيشة اجتماعية حتى يتم التوافق والانسجام بين أفرادها جميعا وهناك دراسات شائعة قام بها عدد من العلماء لدراسة وسائل التفاهم بين الكائنات الحية ومن هذه الدراسات لغة النحل التى درست دراسة مستفيضة.
لغة النحل :
وكما يعرف فإن نحل العسل حشرة اجتماعية تعيش على أرقى مستوى من الحياة الاجتماعية ، ولكى يعيش النحل هذه الحياة الراقية لابد له من وجود وسيلة للتفاهم والاتصال بين النحل وبعضه ، فمثلا عندما يرسل النحل بعض النحل الكشاف ليكتشف مصادر الرحيق وحبوب اللقاح ويعود الى خلاياه ليخبر بقية النحل عن مكان الرحيق وحبوب اللقاح ، فإذا لم يكن لهذا النحل القدرة على إبلاغ معلوماته لبقية النحل فلا فائدة من رحلاته الإستكشافية ، ولذلك لابد أن له وسيلة تخاطب خاصة يتفاهم بها مع غيره من النحل . ولكى يتم التعرف على هذه الوسيلة فإن كثيراً من الباحثين اهتموا بدراسة طريقة التفاهم والإتصال بين النحل وبعضه .
هل لديك فكرة قارئنا العزيز بأن وسيلة التواصل الأساسية بين النحل هي الرقص؟
يعتبر الرقص من أقدم الفنون التي يمارسها الإنسان فقد كان يستخدم منذ القدم كوسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار والعادات الثقافية ولكن هل تعلم أن النحل يرقص؟ نعم إنها حقيقة مدهشة ..
يعتبر الرقص لغة التواصل الأساسية لدى النحل وليس مجرد فعل يعبر عن شعور معين فقد اكتشف العلماء أن النحل يخبر بعضه البعض عن مواقع الطعام الجديدة والمصادر المائية والمواقع الجيدة للسكن من خلال رقص النحل،ولغة النحل هي نظام إشاري يستخدمه النحل في التواصل داخل الخلية وخارجها ويتمثل هذا النظام في تقديم الرقص كوسيلة لتوجيه النحل إلى مصدر غذائي جديد لتوجيهها إلى مكان تواجد الخلايا الجديدة ويستخدم النحل الرقص كوسيلة لنقل المعلومات عن بعد وتتضمن هذه الرقصات إشارات بالاتجاه والمسافة ونوع الغذاء المتوفر ..
قام الكثير من الباحثين بالبحث في دلالات الرقصات المختلفة لدى النحل وعلى رأسهم الباحث النمساوي كارل فون فريتش حيث وصف نوعين أساسيين من الرقص وهو الرقص الدائري والرقص الاهتزازي حيث فى الرقصة الدائرية تدور الشغالة فى حلقات أو شبه حلقات عددها 2ـ3 مرات الى اليمين ، ثم تعكس دورانها الى اليسار فى حلقات عددها 2ـ3 مرات ثم تعود الى اليمين ثم الى اليسار.
ولاحظ كذلك أنه عندما يحضر النحل الى الخلية محلول سكرى ملوث ب داينتروكريسول فإنه بعد وصوله من الحقل بدقائق قليلة يبدأ نحل الخلية فى القيام برقصة تنبيه حيث يجري النحل حلزونيا أو فى خط متعرج غير معتاد ويهتز جانب البطن بقوة ويتوقف نشاط الطيران تمامًا ويبدأ النحل المجاور فى الاستجابة للرقصات ويشترك نحل كثير فى الرقص ، وعندما يفصل النحل السم وبعد ساعتين الى ثلاثة ساعات تعود الطائفة الى حالتها الطبيعية ويبدأ النحل فى الطيران من جديد .
وعند وجود جزيئات الأتربة والشعيرات والمواد الغريبة على جسم الشغالات قد تحث الشغالات على رقصة التنظيف وذلك بتثبيت الأرجل ثم بتأرجح جسم النحلة بإيقاع على الأجناب وفى نفس الوقت يرتفع جسم النحلة وينخفض بسرعة منظفًا حول قواعد الأجنحة والجزء الأوسط للأرجل،وعادة يقترب النحل من النحلة الراقصة ويلامسها بقرون الاستشعار ثم يبدأ في تنظيفها وتقوم النحلة المنظفة بملامسة صدر النحلة الراقصة عند قاعدة الأجنحة وذلك لعزل الشوائب عن طريق الفكوك السفلية وبمجرد أن تشعر النحلة الراقصة بملامسة النحلة المنظفة لها فإنها تتوقف عن الرقص ببطئ مبعده أجنحتها للخارج وتجعل بطنها متجهاً إلى أعلى،وبحركة سريعة تحرك النحلة المنظفة فكوكها السفلى بهمة ونشاط منظفة حول قاعدة الأجنحة وتقف على زوج الأرجل الخلفية وتبقى زوج الأرجل الأمامية معلقة في الهواء وتعمل مع الفكوك السفلية لتنظيف ما تجده واضعةً قرون الاستشعار قريبة من أطراف الفكوك السفلية .
وكذلك عندما تبدأ إحدى الشغالات الموجودة على القرص بتحريك رأسها في طريق خاص بها ، فتثار إحدى جاراتها من الشغالات أو أكثر من واحدة وفى الحال تبدأ في البحث مستخدمة قرون استشعارها وأرجلها الأمامية وتتسلق فوقها وتحتها وتفرق بين أرجلها الوسطية ، ولكن أغلب لمسها يكون من أسفل بواسطة قرون إستشعارها وفكوكها السفلية وأرجلها الأمامية وتسمى هذه برقصة التدليك .
بينما فى الرقصة الاهتزازية تقوم الشغالة بنصف لفة الى أحد الجانبين تجري بعدها فى خط مستقيم الى نقطة البداية وهي تهز بطنها بسرعة على الجانبين ثم تعمل نصف لفه أخرى على الجانب الآخر وتعود فى خط مستقيم إلى نقطة البداية،وهكذا ترقص على شكل رقم ثمانية باللغة الانجليزية 8 .
وبعد ذلك وصف بالتزر فى سويسرا سنة 1950 رقصة جديدة سماها الرقصة المنجلية حيث وجد أن النحلة ترقص فى أقواس متداخلة وفيها يدل اتجاه فتحة المنجل أو القوس على اتجاه مصدر الغذاء كما فى الجرية المستقيمة فى الرقصة الإهتزازية.
وكذلك وصف هين سنة 1950 في هولندا رقصة أخرى سماها رقصة السحب حيث وجد أن النحل يهز جسمه بأكمله على الجانبين أثناء جريه لمسافات قصيرة في أحد الأماكن على القرص ثم يكرر هذه الحركات في أماكن متفرقة، كما وجد أن اتجاه رؤوس النحل يشير دائما إلى اتجاه مصدر الغذاء ولقد لوحظ أنه يحدث انتقال تدريجى من رقصه إلى أخرى أي من الرقصة الدائرية إلى الرقصة الإهتزازية مثلاً كما لاحظ فون فريتش أن الرقص يختلف باختلاف سلالات النحل الراقص .
بعد أن تعرفنا على لغة النحل ودلالات رقصاته المختلفة نتعرف على أساسيات الاتصال بين النحل وهل يعتمد في التواصل على حاسه واحده أم على عدة حواس ؟ وهل الرقص هو الطريقة الوحيدة للتواصل لدى النحل ؟
في الواقع فإن أساسيات الاتصال بين النحل هى نفسها أساسيات الاتصال في الكائنات الأخرى والتى تستخدم فيها مؤثرات متنوعة ، سواء كانت مؤثرات كيماوية أو مؤثرات فيزيائية مثل تأثير الضوء، وتعتبر حاسة الشم من الحواس الفعالة في الحشرات وكذلك المؤثرات البصرية .
ونحل العسل حشرة متأقلمة مع البيئة المظلمة والعش المغلق ، وبالتالى يفترض أن تأثير الرائحة واللمس والصوت يكون أكثر من الرؤية بالنسبة للنحل ولذلك يمكن إرجاع قوة الإتصال بين النحل إلى قوة روائح النحل أو ما يسمى بالفرمونات .
كان يعتقد في البداية أن الرقصة الدائرية تعني وجود مصدر للرحيق بينما الرقصة الإهتزازية تشير إلى وجود مصدر لحبوب اللقاح ، إلا أنه وجد فيما بعد أن نوع الرقص الذى تقوم به الشغالات غير متعلق بنوع الغذاء ولكنه يتوقف على بعد مصدر الغذاء من الخلية ، كما وجد أن قوة الرقصة تحدد كمية الغذاء الموجود ولذلك فإن أهمية الرقص ترجع إلى أنه يفيد في تحديد المسافة التى يبعدها مصدر الغذاء عن الخلية وكمية الغذاء المتوفرة في هذا المصدر والدلالة على إتجاه مصدر الغذاء بالنسبة للخلية.
كيف تقوم النحلة بتحديد المسافة بين مصدر الغذاء والخلية؟
لوحظ أنه إذا كان مصدر الغذاء يبعد عن الخلية مسافة أقل من 100 متر فإن النحل السارح Foragers العائد من الحقل يؤدى رقصة دائرية ، أما إذا كانت المسافة بين مصدر الغذاء والخلية أزيد من 100 متر فإن النحل يقوم برقصة هز الذيل .
وكلما زاد بعد مصدر الغذاء عن الخلية زاد طول الجرية المستقيمة في رقصة هز الذيل وزاد عدد هزات البطن فيها وقل عدد اللفات في الوحدة الزمنية ،
كيف تقوم النحلة بتحديد كمية الغذاء المتوفرة في المصدر؟
وجد أنه يمكن تحديد كمية الغذاء المتوفرة في مصدر الغذاء عن طريق قوة الرقصة حيث لوحظ أن الرقصة الدائرية النشطة دليل على غنى مصدر الغذاء المكتشف ، وبالتالى فهى دعوة لتكوين جيش كبير من النحل السارح للخروج لجمع الغذاء ، بينما لوحظ أن الرقصة الدائرية الضعيفة البطيئة بدون همه ونشاط دليل على فقر مصدر الغذاء المكتشف وبالتالى يكفيه قليل من الشغالات السارحة لجمعه .
تحديد اتجاه مصدر الغذاء بالنسبة للخلية :
إن للنحل قدرة عالية على اكتشاف وجود الشمس حتى في حالة وجود غيوم وسحب تحجب ضوء الشمس ويرجع ذلك إلى حساسية أعين النحل المركبة للأشعة فوق البنفسجية التي تخترق السحب وكذلك الاشعاع الحراري المنبعث من الشمس المحتجبة خلف السحب،وحتى في هذه الظروف يظل النحل معتمد على الشمس في تحديد اتجاه مصدر الغذاء ولتوضيح ذلك نجد أن هناك أربعة حالات يمكن من خلالها تحديد موقع مصدر الغذاء بالنسبة للخلية :
الحالة الأولى :
وفى هذه الحالة إذا كان اتجاه رأس الشغالة في الجرية المستقيمة في الرقصة الإهتزازية إلى أعلى فإنه يدل على أن مصدر الغذاء موجود في نفس اتجاه الشمس .
الحالة الثانية :
وهى عكس الحالة الأولى السابقة ، وفى هذه الحالة إذا كان اتجاه رأس الشغالة في الجرية المستقيمة إلى أسفل فإنه يعنى أن مصدر الغذاء في الجهة المقابلة (المضادة) للشمس .
الحالة الثالثة :
وفى هذه الحالة إذا كان رأس الشغالة في الرقصة الإهتزازية ينحرف بزاوية ما على يمين الخط الرأسى بين الخلية والشمس فمعنى ذلك أن مكان مصدر الغذاء ينحرف عن اتجاه الشمس إلى اليمين بنفس الزاوية.
الحالة الرابعة :
وهى عكس الحالة الثالثة السابقة ، وفيها إذا كان رأس الشغالة في الرقصة الإهتزازية ينحرف بزاوية ما على يسار الخط الرأسى ، فهذا معناه أن مكان مصدر الغذاء ينحرف عن اتجاه الشمس إلى اليسار بنفس الزاوية .
إن العالم بأسره قائم على التواصل فلا يعيش انسان بلا انسان يفهمه ويعرف مايريد ولا تعيش الكائنات الحية بلا لغة تسهل التواصل فيما بينها .. ولولا الهام الله النحل أن يرقص بحركات مختلفة لما اكتمل هذا النظام والعجيب بطريقته المعجزه و أنتج لنا عسلًا عذبًا لذيذًا فيه منفعة وشفاء .. سبحان الذي يلهم الكائنات أدق التفاصيل لتعيش بحكمة منه .